فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أو لمْ يروْاْ} أغفلوا ولم ينظروا {إِلى الطير فوْقهُمْ صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافات على الحال من الطير أو من ضميرها في فوقهم وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظر فالصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لاسيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة {ويقْبِضْن} ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على {صافات} لأن المعنى يصففن ويقبضن أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله:
بات يعيشها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر

فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للاستظهار به على التحرك جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا إثر حين كما يكون من السابح {ما يُمْسِكُهُنّ} في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها {إِلاّ الرحمن} الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يبقضن وقرأ الزهري {ما يمسكهن} بالتشديد {إِنّهُ بِكُلّ شيء بصِيرٌ} دقيق العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول أنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بكل شيء على بصير للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه:
{أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن}
متعلق عند كثير بقوله سبحانه: {أو لم يروا إلى الطير} [الملك: 19] فقال في (الإرشاد) هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يمسكهن إلا الرحمن أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد {أن أمسك رزقه} [الملك: 21] كقوله تعالى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه وأم منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة {ينصركم} صفة لـ: {جند} باعتبار لفظه ومن دون الرحمن على الوجه الأول أما حال من فاعل {ينصركم} أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بـ: {ينصركم} كما في قوله تعالى: {من ينصرني من الله} [هود: 30] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى: {إِنِ الكافرون إِلاّ في غُرُورٍ} اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط وإن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى: {أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك} أي الله عز وجل: {رِزْقهُ} بإمساك المطر وسائر مباديه كالذي مر وقوله تعالى: {بل لّجُّواْ} إلخ منبئ عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا {فِى عُتُوّ} في عناد واستكبار وطغيان {ونُفُورٍ} شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين {أمن هذا الذي هو} [الملك: 20] إلخ عديلا لقوله تعالى أو لم يروا على معنى ألم ينظروا في أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه.
وقال إنه كقوله تعالى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى: {أم من هذا الذي يرزقكم} إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى أم متصلة ومن استفهامية وجعل في الثانية أم منقطعة ومن موصولة وهذا الذي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الوضعين وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه أنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو {أم هل تستوي الظلمات} [الرعد: 16] و{أماذا كنتم تعملون} [النمل: 84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروى ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي والزمخشري قال في الموضعين أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى: {أو لم يروا} [الملك: 19] على ما حققه (صاحب الكشف) قال بعد أن أوضح كلامه إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند} [الملك: 20] متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه: {أم من هذا الذي يرزقكم} بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} فتضطرب نافرة بعدما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن أم منقطعة والاستفهام تهكم وكذلك لما قيل أأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم.
وأما قوله تعالى: {ولقد كذب الذين من قبلهم} [الملك: 18] فاعتراض يشد من عضد التحذير وإن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا وكذلك قوله سبحانه: {أو لم يروا} تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاغتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي....
انتهى ولعمري لقد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع:
ويعجبني طرف تدر دموعه ** على فضله العالي فلله دره

وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل.
وقرأ طلحة في الأولى أمن بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أولمْ يروْا إِلى الطّيْرِ فوْقهُمْ صافّاتٍ ويقْبِضْن}
عطف على جملة: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} [الملك: 15] استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطيرِ في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفردِ به.
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإِطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله: {فوقهم صافات ويقبضن} تُصوِّر صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتُهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصِّبا، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفِيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفِيلة، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يمْلأ وصفُه الصحف قال تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت} [الغاشية: 1720]، وقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير، ولم يكن شاهده من قبل، كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحدٍ ممن ألفوه معشاره.
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل (79) في قوله: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء ما يمسكهن إلاّ الله} وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسُلك في هذه السورة مسلك الإِطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة:
فالوصف الأول: ما أفاده قوله: {فوقهم} فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجوّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرّ قوله تعالى: {يطير بجناحيه} [الأنعام: 38] بعد قوله: {ولا طائر في} [سورة الأنعام: 38] لقصد تصوير تلك الحالة.
الوصف الثاني: {صافات} وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصّف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، وهو قاصر ومتعد، يقال: صفّوا، بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة: {وإنا لنحن الصّافُّون} [الصافات: 165] وقال تعالى في البُدْن {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج: 36].
ويقال: صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ» إلى قوله: «فصفّنا خلفه وكبّر».
والمراد هنا أن الطير صافّة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلاّ ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصفّ ريش الجناح فإذا تمدد الجناحُ ظهر ريشه مصطّفا فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به، وتقدم عند قوله تعالى: {والطير صافات} في سورة النور (41).
وبسط الجناحين يُمكّن الطائر من الطيران فهو كمدّ اليدين للسابح في الماء.
الوصف الثالث: {ويقبضن} وهو عطف على {صافات} من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادةِ الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل.
والقبض: ضد البسط.
والمراد به هنا ضد الصّف المذكور قبله، إذ كان ذلك الصف صادقا على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جُنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران.
وأوثر الفعل المضارع في {يقْبضن} لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان.
وجيء في وصف الطير بـ {صافات} بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد، أي ويجددن قبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض الأجنحة على زيادة التحرك عندما يحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران، ونظيره قوله تعالى في الجِبال والطيرِ {يسبحن بالعشيّ والإِشراق والطير محشورة} [ص: 18 19] لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دوْما.
وانتصب {فوقهم} على الحال من {الطير} وكذلك انتصب {صافات}.
وجملة {ويقبضن} في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر، ولذلك عُديت إلى المرئي بـ (إلى).
والاستفهام في {أو لم يروا} إنكاري، ونزلوا منزلة من لم ير هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإِلهية.
وجملة {ما يمسكهن إلاّ الرحمان} مبينة لجملة {أو لم يروا إلى الطير} وما فيها من استفهام إنكار، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يُمسكُهن إلاّ الرحمان إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض} [الحج: 65].
وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهُوِيّ المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبللِ هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطيْر من الهُوِيّ.
ومعنى إمساك الله إياها: حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح، ومن الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعا لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين.
وإيثار اسم {الرحمان} هنا دون الاسم العلم بخلاف ما في سورة النحل (79) {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلاّ الله} لعله للوجه الذي ذكرناه آنفا في خطابهم بطريقة الإِطناب من قوله: {أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات} الآية.
فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم {الرحمان} فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف {الرحمان} في هذه السورة أربع مرات.
وجملة {إنه بكل شيء بصير} تعليل لمضمون {ما يمسكهُنّ إلاّ الرحمان} أي أمسكهن الرحمان لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمهم أو انتفائه.
والبصير: العليم، مشتق من البصيرة، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو: السميع البصير، وإنما هو هنا من باب قولهم: فلان بصير بالأمور.
وقوله تعالى: {إن الله بصير بالعباد} [غافر: 44]، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم.
وتقديم {بكل شيء} على متعلقه لإفادة القصر الإِضافي وهو قصر قلب ردّا على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك: 13].
{أمّنْ هذا الّذِي هُو جُنْدٌ لكُمْ ينْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرّحْمنِ إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ (20)}
(أم) منقطعة وهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوُجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلاّ إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره.
وهذا الكلام ناشئ عن قوله: {أأمنتم من في السماء} [الملك: 16] الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال.
و(أم) المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام، والأكثر أن يكون مقدرا فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين.
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم {جند} مفروض في الأذهان استُحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا: بنو فلان.
ولما كان الاستفهام مستعملا في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] ونحوه.
و(من) في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ.
وكتب في المصحف {أمّن} بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم (أم) وميم (من) المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب {عمّ يتساءلون} [النبأ: 1] بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلاّ بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته.
و{الذي هو جند} صفة لاسم الإِشارة و{لكم} صفة ل {جند} و{ينصركم} جملة في موضع الحال من {جُندٌ} أو صفة ثانية ل {جند}.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولها الذي اتخذتموه جندا فمن هو حتى ينصركم من دون الله.
فتكون (منْ) استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله: {من فرعون} [الدخان: 31] في قراءة فتح ميم (من) ورفع {فرعون}، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف، واسم الإِشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له، و{الذي هو جند لكم} صفة لاسم الإِشارة وجملة {ينصركم} خبر عن اسم الاستفهام، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان.
وجيء بالجملة الإسمية {الذي هو جند لكم} لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكون على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيُّؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها» أي هيعة جهاد.
فالمعنى: ينصركم عند احتياجكم إلى نصره، فهذا وجه الجمع بين جملة {هو جند لكم} وجملة {ينصركم} ولم يُستغن بالثانية عن الأولى.
و{دون} أصله ظرف للمكان الأسفل ضِد (فوق)، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل.
فقوله: {مِن دون الرحمان} يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من الضمير المستتر في {ينصركم}.
أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله، أي من مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى: {أم لهم ءالهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] فتكون {مِن} زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة، ولا تجر تلك الظروف بغير {مِن}، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين: وما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف.
وفسره بظرف (عند) ولا خصوصية ل (عند) بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة.
وتكرير وصف {الرحمان} عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة.
وذيل هذا بالاعتراض بقوله: {إن الكافرون إلا في غرور}، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام فكما غر الأمم السالفة دينُهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى: {وللكافرين أمثالها} [محمد: 10] وقال: {أكفّاركُم خير من أولئكم} [القمر: 43] فتعريف {الكافرون} للاستغراق.
وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير.
والغرور: ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع.
وتقدم في قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} في آخر آل عمران (196) وقوله: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} في الأنعام (112) وقوله: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} في سورة فاطر (5).
والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأنّ الغرور محيط بهم إحاطة الظرف.
والمعنى: ما الكافرون في حال من الأحوال إلاّ في حال الغرور، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم.
{أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ بلْ لجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ (21)}
انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: {أم من هذا الذين هو جند لكم} [الملك: 20]، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: {وكُلوا من رزقه} [الملك: 15] على طريقة اللف والنشر المعكوس.
والرزق: ما ينتفِع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله تعالى: {وجد عندها رزقا} [آل عمران: 37].
وضمير {أمسك} وضمير {رزقه} عائدان إلى لفظ {الرحمان} الواقع في قوله: {مِن دون الرحمان} [الملك: 20].
وجيء بالصلة فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة.
وكتب {أمّن} في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتبت نظيرتها المتقدمة آنفا.
استئناف بياني وقع جوابا عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: {الذي خلق الموت والحياة} [الملك: 2] إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعِبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم {لجُّوا في عُتُوّ ونفور}.
و{بل} للإضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإِخبار عن عنادهم.
يقال: لجّ في الخصومة من باب سمع، أي اشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العُتّو والنفور، أي لا يترك مخلصا للحق إليهم، فالظرفية مجازية، والعتوّ: التكبر والطغيان.
والنفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.
والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل. اهـ.